الصرخة المزعجة!
في وقت أدبر فيه الزوال،
وأذَّنت الشمس بالظهيرة، فدمّت1 الأرضَ بأشعّتها وحرِّها الشديد، وقد
تجمَّر الناس في بيوتهم، رأيت - وأنا عائد من الصلاة - في قارعة الطريق شخصا
كالشبح تخيلته غولا، وظننت أني وقعت في صمَّاء الغَبَر2 عند الوهلة
الأولى، فلبثْت بُرهة من الزَّمن أراقبه عنْ كثَبٍ.
بعدما تداولته الخطوات بين
تسكُّع السكرانِ، وهدَجانِ المثقّل، و رسَفانِ المُقيَّد، ساقته الرياح جنب الطريق
وتحت شجرة ؛ ليتظلَّل بها، وكأنّ رأسه احتشى بالأحزان، فبقي حائرا، لا يدري أين
يقصد، فقمْتُ لساعته بعدما استدنتني حاله ، لأقترب منه، فإذا شابٌ ردَّه3
التحسُّر نحافةً كالعجِف، كأنه هزَّ رأسه من النعاس، ولما دنوْت منه، حدَّق إليَّ
بعين شزْراءَ4 وبوجه مكتحل بالسخط دون أن ينطق ببنت شفة، فبادرتُهُ
باستخبار أمره : ما شأنك يا أخي؟ أطرق رأسه وهو يجِم، ثمّ أشار إليَّ أن انصرفْ،
فقلت في نفسي: لا، حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثم عزمْتُ على تمثيل دور الإسعاف
لهذا الشاب البائس، وألقي في موطن أسراره المرداس5؛ لأعلم ماذا حلَّ به،
ولم يكنْ ذلك نَفوعًا أمام وُجومه، وبينما كنتُ أتلحَّح6 عليه في
استخباره كصنعة مَن يطِبُّ لمن أحبَّ، أخذ يتلعْثمُ ثم أخرج من جيبه كتابا،
وناولني إياه بيد مهزولة مرتعشة، وما إن فتحتُه وقرأتُ ما تحت طياته حتى طرحتُ
عليه سؤالا: من هي فَاطِ؟ كأنما أيقظْتُ داخله انتعاشا، فتنفَّس تنفسًا عميقا
كالحشْرجة7 مستجمعا قواه، ورفع رأسه تجاهي ليجعلني نُصْب عيْنيهِ،
وردَّ إليَّ جواباً: لقد أحببتها فتحبَّبت إليَّ، تيَّم حبُّها قلبي، ونفَّذ
سهمَهُ شَغافي، كما كنت أجدها نظيفة اليد كبيرة القلب تهواني، فأجمعْت أمري على
التزوُّج بها وكان قاب قوسين، لكن لم يشإ القدَرُ أن نتزوّج. قلت: وكيف ذلك؟! قال:
يا أسفي! على ما فعل. قلت: مَنْ وماذا فعَلَ؟ ردَّ إليَّ : إنَّه رجل قد جاءها قبل
أسبوع يطلب يدها، واتفق الوالد والوالدة على أنْ يزوِّجاهُ بُنيَّتَهما. قلت: لقد
جاءا شيئا إمْرا، وليتهما ما فعلا، إني أتكهَّن لِفَاطِ بأنَّها لمْ ترض منهما
بذلك ولم توافقْ. قال: كيف! ولم يكن لها إمَّرٌ ولا إمَّرةٌ 8 إلاّ أن
تلقي سلاحها، وها هي قد راسلتني منذ ساعتين رسالة، تطلب مني الحضور غدا في وليمتها.
فأجهش بالبكاء، واستبكتني حاله، فحزنْتُ له حزنًا أشدَّ من حزن الخنساء على صخر،
ولم يحدث لي ذلك منذ أن تركَتِ الصَّبابةُ صُبابة9 دموعها في خديَّ.
حاولتُ أن أهدِّئه مِن
رَوْعهِ قائلا له: أفأنتَ باخعٌ نفسك حسرة على قضاء الله؟! يا أخي، اصبر لحكم ربّك،
وتنَاسَ ماضيكَ، ثم تحرَّ لمستقْبلِكَ، لعل الله يُحدث أمرًا بعد ذلك. فسمعتُهُ
يُطلْبقني10. قلت له : لقد سبق أن عانيت كما أنك الآن تعاني، ولمَّا
أداق11 بي الحزن، ركبت دبَّك على هذا الدرب، حتى كاد يفسد عليَّ،
وبعدما علمت أنَّ الصبر مفتاح النجاح، تغلّبت على أمري إذ الدنيا لمْ تنتهِ بعد.
فنظر إليَّ بعين النَّظِرة12، وأطلق صرخة! كصرخة الاحتجاج، ثم انتفض من
جلوسه كمَاردٍ يصحو مِن غَفْوتهِ13، وتابع مسيره.
يَا لهُ من صرخةٍ مزعجةٍ!
إلا أنني لم أكن أنزعج منها؛ لما علمت من شدة ما يعاني، وإنما انزعجتُ من لامبالاة
بعض أولياء الأمور المادِّيين الذين يشرون البنات بمهور مفرطة، بينما كان الواجب
في ذلك الرجوع إلى تعاليم الإسلام، ولقد علَّمهم الرسول - صلى الله عليه وسلّم -
كيف يتعاملون مع من جاء يخطب إليهم حيث قال: "إذا خطب إليكم مَن ترضون دينه
وخلقه فزوِّجوه، إلاَّ تفعلوا تكنْ فتنة في الأرض، وفساد عريض" رواه الترمذي
وابن ماجة.
حرّر بقلم / فضل سيلا "بَوَلْبَوَلْ"
09/06/1437هـ الموافق لـ 18/03/2016م
1- طلى 2-
الداهية. 3- ألبس. 4- محمرَّة من الغضب. 5- حجر يلقى في البئر لينظر أبها ماء أم
لا.6- ألحّ. 7- آخر نفس عند خروج الروح. 8- المشورة، يقال : ما عنده إمر ولا إمرة:
أي شيء. 9- بقية الماء ونحوه. 10- يقول: أطال الله بقاءك. 11- أحاط. 12- الرحمة.
13- النومة الخفيفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق